السعادة ليست مجرد شعور عابر، بل هي مؤشر يعكس جودة الحياة في المجتمعات. تقرير السعادة العالمي لعام 2024 الصادر عن مؤسسة غالوب بالشراكة مع مركز أكسفورد لأبحاث الرفاهية وشبكة حلول التنمية المستدامة التابعة للأمم المتحدة، يقدم صورة شاملة عن حالة السعادة في العالم، معتمدًا على بيانات من أكثر من 140 دولة. يتميز هذا الإصدار بالتركيز على مستويات السعادة في مراحل مختلفة من الحياة، مسلطًا الضوء على الفروق بين الأجيال، والعوامل المؤثرة، والتحديات التي تواجه بعض المناطق. كيف تتغير السعادة بين الشباب وكبار السن؟ ولماذا تتصدر دول معينة القائمة بينما تعاني أخرى؟ دعونا نستكشف هذه الأسئلة.
الفروقات في مستويات السعادة بين الأجيال
هناك تباين واضح في مستويات السعادة بين الأجيال المختلفة. الأشخاص المولودون قبل عام 1965 يميلون إلى أن يكونوا أكثر سعادة مقارنةً بالمواليد بعد عام 1980، بفارق يصل إلى 0.25 نقطة على مقياس تقييم الحياة.
الشباب (15-24 عامًا) في شمال أمريكا وأوروبا الغربية شهدوا انخفاضًا في مستويات السعادة منذ عام 2006، في حين سجلت مناطق أخرى مثل إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى استقرارًا أو حتى زيادة طفيفة. على سبيل المثال، في الهند يُلاحظ أن رضا الحياة يميل إلى التحسن مع التقدم في العمر، وهو اتجاه شائع في العديد من الدول.
أكثر الدول سعادة في العالم
تواصل فنلندا احتلال الصدارة عالميًا كالدولة الأسعد بدرجة 7.74 على مقياس من 10، تليها الدنمارك وأيسلندا. يعكس هذا التفوق هيمنة الدول الإسكندنافية على مراتب السعادة العالمية بفضل جودة الحياة العالية.
على الجانب الآخر، تبقى أفغانستان في ذيل القائمة بدرجة 1.72 فقط، مما يبرز التأثير العميق للتحديات السياسية والاقتصادية التي تواجهها.
أما في أوروبا الشرقية، فقد سجلت دول مثل صربيا وبلغاريا زيادات كبيرة في تقييمات الحياة مقارنة بعام 2013، حيث ارتفعت بمعدل 1.8 نقطة، وهو ما يُظهر تحسنًا في جودة الحياة في تلك الدول.
العوامل المؤثرة في السعادة
تعتمد قياسات السعادة في التقرير على 6 عوامل رئيسية تُفسر الفروق بين الدول:
الناتج المحلي الإجمالي للفرد: يمثل قوة الاقتصاد المحلي.
الدعم الاجتماعي: يعكس مدى قدرة الأفراد على الاعتماد على الآخرين في الأوقات الصعبة.
متوسط العمر المتوقع: كمؤشر للصحة العامة.
الإحساس بالحرية: القدرة على اتخاذ القرارات بحرية.
الكرم: حجم التبرعات والأعمال الخيرية.
انخفاض الفساد: يحدد مدى الثقة في المؤسسات العامة.
الدول التي تُظهر مؤشرات قوية في هذه الجوانب تحقق نتائج أفضل في تقييمات الحياة. على سبيل المثال، الدول الإسكندنافية تتميز بأداء قوي في جميع هذه المؤشرات، مما يعزز مكانتها في المراتب الأولى.
المشاعر الإيجابية والسلبية: اتجاهات عالمية
المشاعر الإيجابية مثل الضحك والاهتمام أعلى بشكل ملحوظ بين الشباب تحت سن الـ 30، لكنها تميل إلى الانخفاض مع التقدم في العمر باستثناء أمريكا الشمالية، حيث تُظهر بياناتها استقرارًا نسبيًا.
أما المشاعر السلبية، فقد شهدت زيادة ملحوظة عالميًا منذ عام 2010، حيث ارتفعت مستويات الحزن والقلق في معظم المناطق. في مناطق النزاع مثل الشرق الأوسط وأفغانستان، كانت هذه المشاعر أعلى بكثير مقارنة بالمناطق الأخرى، ما يعكس تأثير البيئة السياسية والاجتماعية على الحالة النفسية.
العلاقة بين السعادة والصحة العقلية
الصحة العقلية تلعب دورًا محوريًا في تعزيز السعادة، خاصة بين كبار السن. تظهر الأبحاث أن ارتفاع مستويات السعادة يرتبط بانخفاض خطر الإصابة بأمراض مثل الخرف. كما أن المجتمعات التي تركز على تحسين الصحة النفسية للأفراد تسجل مستويات أعلى من الرضا العام.
بالإضافة إلى ذلك، يعتبر تعزيز السعادة أداة فعالة لتحسين جودة الحياة الشاملة، مما يجعل الاستثمار في السياسات الداعمة للصحة العقلية أولوية للمجتمعات.
تحليل التغيرات الجغرافية في السعادة
تشهد المناطق المختلفة تفاوتًا كبيرًا في مستويات السعادة:
أوروبا وأمريكا الشمالية: رغم احتلالها مراتب متقدمة في القائمة، إلا أنها تواجه انخفاضًا ملحوظًا في السعادة بين الشباب.
أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى: تظهر استقرارًا أو زيادات طفيفة في مستويات السعادة على الرغم من التحديات الاقتصادية.
آسيا: دول مثل الهند تُظهر تحسنًا تدريجيًا في رضا الحياة مع التقدم في العمر، مما يعكس أهمية الدعم الاجتماعي والصحي.
أثر السعادة على المجتمعات
تعكس السعادة قوة المجتمعات وقدرتها على التكيف مع التحديات.
الدول التي تستثمر في العوامل المؤثرة على السعادة، مثل الدعم الاجتماعي وتحسين الصحة العامة، تحقق نتائج أفضل على المدى الطويل، فالسعادة مقياس يعكس جودة المؤسسات ومستوى التنمية في الدولة.
دعم رفاهية سكان العالم المسنين: الارتباطات بين الرفاهية والخرف
بحلول عام 2050، تقدر منظمة الصحة العالمية أن عدد سكان العالم من الأشخاص الذين تبلغ أعمارهم 65 عامًا أو أكثر سيتضاعف. ومع استمرار ارتفاع عدد كبار السن في العالم، من المتوقع أيضًا أن ينمو عدد الأشخاص الذين يعانون من الخرف، ليصل إلى حوالي 139 مليون حالة خرف بحلول عام 2050.
تشير مجموعة متزايدة من الأدلة إلى أن الرفاهية قد تكون هدفًا واعدًا لجهود الوقاية من الخرف نظرًا لارتباطها بصحة معرفية أفضل وانخفاض خطر الإصابة بالخرف.
الظروف الاجتماعية والاقتصادية: لاعب أساسي في معادلة السعادة
السعادة ليست رفاهية بل هدف أساسي لتحقيق جودة حياة مستدامة. تقرير السعادة العالمي 2024 يُبرز أهمية تحسين الظروف الاجتماعية والاقتصادية لتعزيز مستويات السعادة، سواء على مستوى الأفراد أو المجتمعات.
الفجوة بين الشباب وكبار السن، والفروق بين المناطق المختلفة، تقدم لنا دروسًا مهمة حول كيفية تعزيز الرضا العام. من خلال الاستثمار في العوامل المؤثرة على السعادة، يمكننا خلق مجتمعات أكثر استقرارًا وازدهارًا.