في ظل تغير المناخ المتسارع الذي يشهده العالم، تواجه الزراعة تحديات غير مسبوقة تهدد الأمن الغذائي العالمي. درجات الحرارة المرتفعة، التغيرات في أنماط هطول الأمطار، والظواهر الجوية المتطرفة كلها عوامل تضع المحاصيل الزراعية تحت ضغوط كبيرة. مع تقلب الأسعار وانعدام الأمن الغذائي، تتحول هذه القضية إلى أزمة عالمية تحتاج إلى حلول جذرية. في هذا التقرير، نسلط الضوء على الأرقام والبيانات التي تكشف التأثير الكبير لتغير المناخ على المحاصيل الزراعية عالميًا.
كيفية تأثر المحاصيل العالمية بتغير المناخ
باتت تأثيرات تغير المناخ واحدة من أكبر التحديات التي تواجه العالم اليوم، حيث يهدد ارتفاع درجات الحرارة والظروف الجوية المتقلبة قدرة البشرية على إنتاج الغذاء. مع تزايد الانبعاثات الكربونية وارتفاع متوسط درجات الحرارة، بدأت المحاصيل الزراعية الرئيسية تتأثر بشكل ملحوظ، إذ يُظهر المستقبل القريب تباينًا حادًا في إنتاج المحاصيل مثل الذرة، القمح، فول الصويا، والأرز. في ظل سيناريوهين مختلفين، الأول يتمثل في الاحترار المنخفض RCP2.6 والثاني الاحترار المتطرف RCP8.5، تبدو التأثيرات متباينة، لكن الاتجاه العام يُظهر تهديدًا كبيرًا خاصة للمناطق الاستوائية، ما يفرض علينا التفكير بعمق في كيفية التعامل مع هذه التغيرات لضمان الأمن الغذائي العالمي.
تغير المناخ: تراجع الذرة وزيادة طفيفة في القمح والأرز
تشير الدراسات إلى أن محصول الذرة هو الأكثر تضررًا من ظاهرة الاحترار العالمي، أو المعروفة بالاسم الأكثر شيوعا “الاحتباس الحراري”، وهي ظاهرة تقيس مدى مساهمة تأثير بعض الغازات على ظاهرة الدفيئة وذلك من خلال تحويلها إلى عوامل موازية لثاني أكسيد الكربون.
في سيناريو الاحترار المنخفض RCP2.6، يتوقع انخفاض إنتاج الذرة بنسبة 6.4%، بينما يُظهر السيناريو الأكثر تطرفًا RCP8.5 انخفاضًا هائلًا يصل إلى 24%.
تكمن خطورة هذا التراجع في أن الذرة تُعد أحد أهم المحاصيل الأساسية عالميًا، خاصة في الدول النامية التي تعتمد عليها كغذاء رئيسي وكمصدر للأعلاف الحيوانية. هذا التراجع قد يفاقم أزمات الغذاء ويدفع أسعار السلع الغذائية إلى مستويات غير مسبوقة، مما يُشكل تهديدًا مباشرًا للأمن الغذائي.
على الجانب الآخر، تظهر نتائج إيجابية نسبيًا فيما يتعلق بمحصول القمح. بخلاف الذرة، يستفيد القمح من ارتفاع مستويات ثاني أكسيد الكربون (CO₂) في الجو، وهو ما يُساهم في تعزيز عملية التمثيل الضوئي وزيادة الإنتاج.
في ظل السيناريو المعتدل RCP2.6، يُسجل إنتاج القمح زيادة بنسبة 9%، بينما ترتفع هذه النسبة إلى 18% في سيناريو الاحترار المتطرف. هذه الزيادة تُظهر أن بعض المحاصيل قد تستفيد من الظروف المناخية الجديدة، وإن كان ذلك محدودًا جغرافيًا ومؤقتًا بسبب المخاطر المصاحبة لارتفاع درجات الحرارة.
بالنسبة لمحصول الأرز، تتأرجح التوقعات بين الاستقرار والتحسن الطفيف. يُظهر السيناريو المعتدل زيادة بنسبة 3%، بينما يُسجل السيناريو المتطرف زيادة محدودة بنسبة 2%. يُعزى هذا الاستقرار إلى توازن التأثير السلبي لارتفاع درجات الحرارة مع التأثير الإيجابي لزيادة مستويات ثاني أكسيد الكربون. لكن رغم هذا الاستقرار النسبي، يظل الأرز عرضة للتغيرات المناخية، خاصة في المناطق التي تعتمد على الأمطار الموسمية كمصدر رئيسي للري.
فول الصويا: تباين طفيف بين الاستقرار والتراجع
يُظهر محصول فول الصويا تغيرات طفيفة مقارنة بالمحاصيل الأخرى، حيث يُسجل زيادة متواضعة بنسبة 2% في سيناريو الاحترار المنخفض، بينما يتراجع بنسبة 2% في ظل الظروف المتطرفة. يعكس هذا التباين قدرة فول الصويا على التأقلم مع الظروف المناخية الجديدة إلى حد ما، وإن كان ذلك يعتمد بشكل كبير على موقع الإنتاج ونوعية التربة. هذا المحصول يمثل جزءًا حيويًا من النظام الغذائي العالمي، ليس فقط كغذاء بشري ولكن أيضًا كأحد أهم مصادر الأعلاف الحيوانية، ما يجعله جزءًا أساسيًا من سلسلة الإمداد الغذائي.
الآثار المستقبلية على الأمن الغذائي العالمي
يُظهر تغير المناخ تباينًا كبيرًا في قدرة المحاصيل على التأقلم، حيث تصبح الفجوة بين المناطق الاستوائية والمعتدلة أكثر وضوحًا. بينما قد تستفيد بعض الدول في خطوط العرض المعتدلة من زيادة إنتاج القمح، تواجه المناطق الاستوائية تراجعًا حادًا في إنتاج المحاصيل الأساسية، مما يزيد من الفجوة الغذائية.
الذرة، التي تُعد مصدر الغذاء الأساسي في العديد من الدول النامية، تواجه خطرًا كبيرًا، مع توقع انخفاض إنتاجها بنسبة تصل إلى 24% في ظل الظروف المناخية القاسية.
تقلب الإنتاج سيؤدي حتمًا إلى ارتفاع أسعار السلع الغذائية عالميًا، ما يزيد من حدة انعدام الأمن الغذائي. تشير الدراسات إلى أن ارتفاعًا كهذا قد يجعل الغذاء بعيد المنال عن متناول الفئات الأكثر فقرًا، خاصة في أفريقيا وجنوب آسيا، حيث يُعتمد على الزراعة كوسيلة أساسية للمعيشة.
التحديات والحلول المقترحة
في مواجهة هذه التحديات، بات من الضروري تبني حلول سريعة وفعالة لحماية الإنتاج الزراعي العالمي. ومن ضمن أبرزها:
تطوير محاصيل مقاومة للمناخ: من خلال الأبحاث الزراعية، يمكن إنتاج أصناف من المحاصيل تتحمل الحرارة العالية والجفاف.
تعزيز الزراعة الذكية: إدخال تقنيات حديثة تساعد في تحسين كفاءة الري وإدارة الموارد الطبيعية.
التحول نحو الاستدامة: تقليل انبعاثات الكربون للحد من تأثير الاحترار العالمي.
“كوب 16” في الرياض: حلول للحد من تدهور الأراضي
بعد أسبوعين من المفاوضات المكثفة بشأن كيفية معالجة تدهور الأراضي والتصحر والجفاف، اختتم في الرياض، مؤتمر الأطراف لاتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر (كوب 16)، كأحد أبرز الحلول الفعالة والمستدامة لحماية الإنتاج الزراعي العالمي.
مؤتمر شهد التزام الدول المشاركة فيه بإعطاء الأولوية لاستعادة الأراضي والقدرة على التكيف مع الجفاف في السياسات الوطنية والتعاون الدولي كاستراتيجية أساسية للأمن الغذائي والتكيف مع المناخ.
كما أحرزت الدول تقدماً كبيراً في وضع الأساس لنظام الجفاف العالمي المستقبلي، والذي تنوي استكماله في مؤتمر الأطراف السابع عشر في منغوليا في عام 2026. وفي الوقت نفسه، تم التعهد بأكثر من 12 مليار دولار أمريكي لمعالجة التصحر وتدهور الأراضي والجفاف في جميع أنحاء العالم، وخاصة في البلدان الأكثر ضعفاً.
الأمن الغذائي العالمي: بناء استراتيجيات مستدامة
إن تأثير تغير المناخ على الزراعة لا يقتصر على انخفاض الإنتاج فقط، بل يمتد ليشمل الأمن الغذائي العالمي واستقرار الاقتصادات الزراعية.
الذرة قد تكون الخاسر الأكبر بينما القمح المستفيد المؤقت، لكن الأرقام تُحذر من تزايد التحديات في السنوات المقبلة. إن مواجهة هذه الأزمة تتطلب تعاونًا عالميًا وتبني استراتيجيات مستدامة تضمن استمرار إنتاج الغذاء وتقلل من الآثار السلبية لتغير المناخ على مستقبل الزراعة.