المحاسبة المالية: الشفافية والنزاهة في عالم الأعمال

تحتاج مؤسسات الأعمال إلى تقييم وضعها الاقتصادي وتشخيص المشكلات التي واجهتها بحلول نهاية كل سنة مالية، وهو ما يحمّلها مسؤولية مراجعة الأداء والمنجزات والاحتياجات اللازمة لتحسين الأعمال، ولهذا تلعب المحاسبة المالية دورًا لا مفر منه في الحفاظ على السجلات والإحصاءات المتعلقة بمعاملات الشركة كل عام، فما الذي يجب أن تعرفه عن هذا المجال؟

ما هي المحاسبة المالية؟

تعرف المحاسبة المالية بأنها عملية توثيق وتحليل عن كل معاملات الشركة، من أجل تقييم الصحة المالية والاستقرار لها.

يضع المحاسبون هذه البيانات المالية في تقارير، تلخّص مركز الشركة المالي ومجموع أصولها وأرباحها؛ لتوفير رؤى لملاكها تعينهم على التخطيط للمستقبل، وللمستثمرين أو العملاء الراغبين في التعاون معها.

ويتبع المحاسبون في الغالب مجموعة موحّدة من الإرشادات تعرف باسم للمعايير الدولية لإعداد التقارير المالية (IFRS)، والتي تمت صياغتها لتوحيد العمليات المحاسبية عبر الشركات.

ونظرًا لأهمية هذا القطاع، يحتفل العالم في العاشر من نوفمبر سنويًا باليوم العالمي للمحاسبة، بهدف التوعية بأهمية هذا المجال، كأحد ممكنات نمو الاقتصاد وتعزيز تنافسية الأعمال وجذب الاستثمارات.

المحاسبة المالية.. جسر بين الشفافية والكفاءة التشغيلية

اكتسب مصطلح الشفافية في مؤسسات الأعمال شعبية كبيرة في السنوات الأخيرة، ويشير إلى الدرجة التي تتيح بها الشركات بيانات العمليات الخاصة به للموظفين والعملاء على السواء، وهو ما يستلزم اتباع أعلى معايير المحاسبة المالية للوصول إلى الدقة في المعلومات.

وفقًا لدراسة تم تسليط الضوء عليها في مجلة “هارفارد بيزنس ريفيو”، فإن الموظفين الذين يعملون في بيئات تتميز بمستويات عالية من الشفافية يكونون أكثر انخراطًا في العمل بنسبة 76% وأكثر رضا بنسبة 29% عن حياتهم خارج العمل.

وتؤكد هذه الإحصائيات على التأثير العميق الذي يمكن أن تحدثه الشفافية والثقة داخل مكان العمل ليس فقط على النتائج المهنية ولكن أيضًا على الرفاهية الشخصية.

علاوة على ذلك، فإن الافتقار إلى الوضوح حول استراتيجيات الشركة والأهداف الرئيسية يمكن أن يشكل عائقًا كبيرًا أمام نجاح المنظمة.

وفقًا لدراسة أخرى أجرتها مجلة “هارفارد بيزنس ريفيو”، فإن 40% فقط من الموظفين يقولون إنهم يعلمون بوضوح استراتيجيات شركتهم وأهدافها الرئيسية.

وتشير هذه الإحصائية إلى أن ما يصل إلى 60% من الموظفين لا يعرفون ما يتطلبه الأمر للنجاح في أدوارهم والمساهمة بشكل فعال في أهداف الشركة، بسبب غياب الشفافية.

عزّز الأداء المالي لشركتك

يسجّل المحاسبون كافة معاملات المؤسسة على مدى السنة المالية، بما يشمل المدخلات والمدخرات؛ لذا يصبح من السهل على أصحاب الأعمال تحديد تكلفة الإنتاج والتشغيل وحساب هامش الربح بدقة.

وفي عصرنا الحالي، والذي أصبحت فيه ثقة المستهلك مهمة للغاية، أصبحت الشفافية ضرورة لزيادة الإيرادات.

وفقًا لدراسة حديثة أجرتها شركة “Label Insight”، فإن 94% من المستهلكين أكثر ميلاً إلى الولاء للعلامة التجارية التي توفر شفافية كاملة فيما يتعلق بأسعارها.

خذ على سبيل المثال الاستراتيجية الناجحة التي نفذتها شركة “Warby Parker” للتجزئة عبر الإنترنت، والتي أحدثت اضطرابًا في صناعة النظارات بنموذج التسعير الواضح.

ومن خلال الكشف عن التكاليف، لم تعزز الشركة ثقة المستهلك فحسب، بل أبلغت أيضًا عن نمو مذهل بنسبة 50% في المبيعات في غضون عامين فقط.

يؤكد هذا السرد على تحول أساسي، فعندما تختار العلامات التجارية التواصل بصراحة حول أسعارها، فإنها لا تكتسب المصداقية فحسب؛ بل إنها تحصل على مجتمع من المستهلكين المطلعين الذين يشعرون بالتمكين في قرارات الشراء الخاصة بهم.

وبالإضافة إلى ذلك، فإن آثار التسعير الشفاف تمتد إلى ما هو أبعد من مجرد ولاء المستهلك؛ إذ يمكنها أن تؤثر بشكل كبير على صافي أرباح الشركة.

وجد استطلاع أجرته شركة “ديلويت” أن 80% من المستهلكين أكثر ميلاً إلى التعامل مع الشركات التي تستخدم ممارسات التسعير الشفافة.

استفادت الشركات الرائدة، مثل “كوستكو” الأمريكية، العاملة في مجال البيع بالتجزئة، من هذا الاتجاه من خلال تنفيذ استراتيجيات تسعير مباشرة تلقى صدى لدى العملاء.

ويوضح نموذج أعمالها كيف يمكن للشفافية أن تؤدي إلى زيادة رضا العملاء، حيث أعرب 87% من المتسوقين عن ثقتهم في تسعير “كوستكو” مقارنة بالمنافسين في الصناعة.

وتوضح هذه البيانات المقنعة ليس فقط مزايا التسعير الشفاف ولكن أيضًا سرديات العلامات التجارية الناجحة التي تبنت هذا النهج، مما أدى في نهاية المطاف إلى دفع كل من مشاركة المستهلك ونمو الإيرادات.

التقنية تدفع المحاسبة والشفافية للأمام

في عالمنا الرقمي السريع الخطى اليوم، لم تغير التقنية الطريقة التي نتواصل بها وندير بها الأعمال فحسب، بل إنها أدت أيضًا إلى تحويل صناعة التمويل والمحاسبة بشكل كامل.

وتمثّل الأتمتة واحدة من أهم التغييرات التي أحدثتها التقنية في العمليات المحاسبية، فالمهام التي كانت يدوية وتستغرق وقتًا طويلًا في السابق، أصبحت آلية الآن.

وفقًا لدراسة أجرتها شركة ديلويت، يعتقد 94% من المتخصصين في مجال التمويل أن الأتمتة في المحاسبة أدت إلى تحسين دقة البيانات المالية.

وأحدثت تقنية الحوسبة السحابية ثورة في إمكانية الوصول إلى البيانات المحاسبية.

يمكن للمحاسبيت بفضل الأنظمة المستندة إلى السحابة، الوصول إلى المعلومات المالية من أي مكان وفي أي وقت، باستخدام أي جهاز متصل بالإنترنت.

في دراسة أجريت في الولايات المتحدة، تبين أن 92% من المحاسبين يؤمنون بالقيمة التي تضيفها التقنية الجديدة إلى شركاتهم.

وذكر التقرير الخاص بنتائج الدراسة أن السحابة الإلكترونية سوف تكون موقع 82% من بيانات المحاسبة في المستقبل القريب.

وتظهر الأبحاث التي أجرتها شركة “Statista” لأبحاث السوق أن 64% من الشركات الصغيرة تستخدم برامج المحاسبة لإدارة سجلاتها المالية.

ويؤدي هذا التقدم إلى تعزيز نمو الإيرادات، فعلى سبيل شهدت عملاقة البيع بالتجزئة الأمريكية “Walmart”، تحسينات مستمرة في ربحيتها بفضل الأتمتة والتقدم التقني في سلسلة التوريد والأنظمة المالية.

في السنة المالية 2024، أعلنت “Walmart” عن زيادة بنسبة 6.4% في الإيرادات، فيما وقد نمت عمليات التجارة الإلكترونية، المدعومة بالتقنية المتكاملة، بنسبة 24% في نفس الفترة.

ساعد تركيز “Walmart” على أتمتة المحاسبة في خفض التكاليف وتحسين الدقة المالية، في حين أن تقنيات سلسلة التوريد المستندة إلى الذكاء الاصطناعي، أدت إلى تقليل خسائر المخزون وتحسين معدل دوران المنتج.

في السنة المالية 2024، بلغ صافي الشركة نحو 13.7 مليار دولار، وهي نتيجة مدفوعة بالاستثمارات التقنية عبر عملياتها، بما في ذلك التمويل والمحاسبة.

سوق ضخمة

تمثّل المحاسبة المالية سوقًا عملاقة، ففي العام المنقضي وحده، تمكنت أكبر 4 شركات محاسبة وتدقيق حول العالم من جمع نحو 200 مليار دولار مقابل خدماتها.

بلغت إيرادات شركة “Deloitte” في عام 2023 نحو 64.9 مليار دولار، تلتها “PwC” في المرتبة الثانية (53.09) مليار دولار، وحلّث “EY” ثالثًا (49.4 مليار دولار)، ثم “KPMG” في المركز الرابع (36.4 مليار دولار).

الخلاصة هي أن المحاسبة المالية من مكوّنات الأعمال التي لا غنى عنها لأي مؤسسة مهما كان حجمها؛ لأنها الوسيلة التي يمكن من خلالها وحدها تنظيم المعاملات، بما يضمن فهم أسباب النجاح وأوجه القصور لمراجعتها، ومن ثم وضع الخطط التي تؤدي إلى زيادة الربحية.