يسعى المجتمع الدولي إلى إنهاء الصراعات والنزاعات وتحقيق التعاون والتنمية المستدامة بين البلدان، من خلال تحقيق سلامًا يشمل دول العالم كافة بجهود مشتركة من الأفراد والمجتمعات والدول.
يأتي هذا في وقت ترتفع فيه مؤشرات الصراعات الكبرى لاندلاع الحروب أكثر من أي وقت مضى..
طبول الحرب تقرع
هناك حاليًا 56 صراعًا نشطًا وهو العدد الأكبر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، مع وجود عدد أقل من الصراعات التي يتم حلها، سواء عسكريًا أو من خلال اتفاقيات السلام.
انخفض عدد الصراعات التي انتهت بانتصار حاسم من 49% في السبعينيات إلى 9% في العقد الأول من القرن الـ21، في حين انخفضت الصراعات التي انتهت باتفاقيات السلام من 23% إلى 4% خلال نفس الفترة.
كما أصبحت الصراعات أكثر تدويلًا، حيث تشارك 92 دولة الآن في صراع خارج حدودها، وهو أكبر عدد منذ إنشاء مؤشر السلام العالمي في عام 2008، ما يُعقّد عمليات التفاوض من أجل السلام الدائم ويطيل أمد الصراعات.
يعود تدويل الصراع إلى زيادة المنافسة بين القوى العظمى وصعود القوى متوسطة المستوى، التي أصبحت أكثر نشاطًا في مناطقها، وهذا يزيد احتمالية نشوب صراعات كبرى، ما يجعل حاجة العالم إلى الحلول السلمية وتحقيق السلام ضرورة أكثر من أي وقت مضى.
السلام الإيجابي
السلام أكثر من مجرد غياب للعنف.. يصف السلام الإيجابي المواقف والمؤسسات والهياكل التي تخلق المجتمعات السلمية وتدعمها.
يرتبط السلام الإيجابي بالعديد من جوانب التنمية الاجتماعية ويتصور طرقًا جديدة لفهم كيفية عمل المجتمعات وكيفية تطوير مجتمعات مزدهرة.
تصبح الأنظمة الاجتماعية التي تعمل بدرجات أعلى من السلام الإيجابي، أكثر مرونة وقدرة على توفير حماية أكثر فعالية لمواطنيها ضد الصدمات السلبية، سواء كانت سياسية أو بيئية أو اقتصادية، لأنها تتعافى أسرع وتكون أكثر ميلًا إلى وضع استراتيجيات للتكيف لتكون أكثر استعدادًا للصدمات المستقبلية.
ويمكن استخدام السلام الإيجابي كمؤشر لانخفاض كبير في السلام بالمستقبل قبل سنوات عديدة، ما يعطي المجتمع الدولي تحذيرات مسبقة ووقتًا للتحرك الأمثل.
التكلفة البشرية للصراعات
توضح الصراعات الإقليمية، مثل حرب روسيا وأوكرانيا وحرب غزة، التكلفة البشرية المدمرة وتعقيد الحرب الحديثة.. فقد شهد الصراع بين روسيا وأوكرانيا أكثر من 2000 حالة وفاة شهريًا تقريبًا كل شهر في العامين الماضيين، بينما لم يحقق أي من الجانبين مكاسب كبرى.
وأسفر الصراع في غزة عن مقتل أكثر من 35000 شخص منذ أكتوبر 2023، ما أدى إلى أزمة إنسانية حادة,, هذه الصراعات هي أمثلة على “الحروب الأبدية”، حيث يصبح العنف المطول لا نهاية له على ما يبدو دون حلول واضحة، ويتفاقم بسبب الدعم العسكري الخارجي والحرب غير المتكافئة والتنافسات الجيوسياسية.
تتغير الحرب في القرن الـ21 نتيجة لاتجاهين رئيسيين: التغيرات في التقنية العسكرية والمنافسة الجيوسياسية المتزايدة.. يمكن للمجموعات غير الحكومية الآن التعامل بشكل أكثر فعالية مع الدول الأكبر باستخدام تقنيات مثل الطائرات بدون طيار والأجهزة المتفجرة المرتجلة.
وقد زاد استخدام الطائرات بدون طيار، حيث زادت المجموعات غير الحكومية من هجمات الطائرات بدون طيار بنسبة تزيد عن 1400% منذ عام 2018، وقد أدى هذا التحول إلى جعل الصراعات أكثر تعقيدًا وصعوبة في الحل.
وتزيد التحولات الجيوسياسية من تعقيد إدارة الصراعات العالمية، وقد أدى الانتقال من عالم أحادي القطب تهيمن عليه الولايات المتحدة إلى عالم متعدد الأقطاب إلى تكثيف المنافسة وإطالة أمد الصراعات.
تعاني القوى التقليدية، مثل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، من ضغوط هائلة، ما يحد من قدرتها على إدارة التوترات العالمية بشكل فعال.
وفي الوقت نفسه، تتنافس القوى الناشئة مثل الصين وروسيا والقوى المتوسطة الإقليمية بشكل متزايد على النفوذ في المناطق المتضررة من الصراعات في جميع أنحاء العالم.
تسببت النزاعات في لجوء 110 ملايين شخص أو نزوحهم داخليًا بسبب الصراعات العنيفة، حيث تستضيف 16 دولة الآن أكثر من نصف مليون لاجئ.. وشهدت أمريكا الشمالية أكبر تدهور إقليمي، مدفوعًا بزيادات في الجرائم العنيفة والخوف من العنف.
وأصبح أكثر من 95 مليون شخص الآن إما لاجئين أو نازحين داخليًا بسبب الصراع العنيف، ويوجد الآن 16 دولة تعرض فيها أكثر من 5% من السكان للتهجير القسري.
مؤشر السلام العالمي 2024
يصنف مؤشر السلام العالمي 163 دولة ومنطقة مستقلة وفقًا لمستوى سلامها، ويغطي 99.7% من سكان العالم.. وتناول مؤشر السلام العالمي لعام 2024 كيف تتغير الحروب والصراعات العنيفة في الـ21 في وقت ارتفعت فيه كل من الصراعات ووفيات المعارك في العقدين الماضيين، حيث وصلت وفيات المعارك إلى أعلى مستوى لها في 30 عامًا في عام 2022.
وجدت نتائج هذا العام أن متوسط مستوى السلام العالمي تدهور بنسبة 0.56%، وهذا هو التدهور الـ12 في السلام خلال السنوات الـ16 عامًا الماضية، حيث تحسنت 65 دولة وتدهورت حالة السلم في 97 دولة، أكثر من أي عام منذ إنشاء المؤشر في عام 2008.
من بين 163 دولة في مؤشر السلام العالمي، سجلت 95 دولة تدهورات في السلم، بينما سجلت 66 دولة تحسنات ولم تسجل دولتان أي تغيير.
وجاءت أوروبا المنطقة الأكثر سلمية في العالم وهي موطن لـ8 من الدول الـ10 الأكثر سلمية، وكانت المنطقة الأكثر سلمية كل عام منذ بدء مؤشر السلام العالمي، بينماوظلت منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أقل منطقة سلمية في العالم.
الخسائر الاقتصادية بسبب العنف
وكان تأثير العنف على الاقتصاد العالمي في عام 2023 قد بلغ 19.1 تريليون دولار من حيث تعادل القوة الشرائية، وهذا الرقم يعادل 13.5% من الناتج العالمي الإجمالي، أو 2380 دولارًا للفرد.
ويمثل الإنفاق العسكري والأمن الداخلي أكثر من 74% من إجمالي التأثير الاقتصادي للعنف، حيث بلغ التأثير الاقتصادي للإنفاق العسكري وحده 8.4 تريليون دولار في العام الماضي.
وبلغ الإنفاق على بناء السلام وحفظ السلام 49.6 مليار دولار في عام 2023، أي أقل من 0.6 في المائة من إجمالي الإنفاق العسكري من حيث القوة الشرائية.
وقد شهدت العديد من البلدان انخفاضات هائلة في الناتج المحلي الإجمالي نتيجة للصراع العنيف خلال تلك الفترة، فقد انكمش اقتصاد أوكرانيا بنحو 30% في عام 2022 نتيجة للغزو الروسي، في حين تشير بعض التقديرات إلى أن الحرب الأهلية السورية أدت إلى انخفاض بنسبة 85% من الناتج المحلي الإجمالي.
ضرورة السلام العالمي
تسجل البلدان التي تتمتع بفائض من السلام الإيجابي تحسنات كبيرة في السلام في العقد التالي.. وهذا يؤكد أهمية السلام الإيجابي كمقياس لمرونة المجتمع والدور التنبئي الذي يلعبه في تقييم التنمية المجتمعية في المستقبل.
وتتمتع البلدان ذات السلام الإيجابي الأعلى بأداء اقتصادي متفوق من البلدان ذات السلام الإيجابي الأقل، كما أن مقاييس أخرى للازدهار الاقتصادي أعلى بين البلدان التي تحسنت درجاتها في مؤشر السلام الإيجابي.
وقد نما استهلاك الأسر بأكثر من ضعف سرعة نموه في أماكن أخرى، وكان التضخم أقل تقلبًا بمرتين، وكان نمو الاستثمار الأجنبي المباشر والتجارة الدولية أعلى كثيراً. وبالنسبة للقطاعات الصناعية والخدمية والزراعية، تجاوز نمو القيمة المضافة الاقتصادية بين البلدان التي تحسنت مؤشرات أسعار المنتجين نمو البلدان التي تدهورت بنقطة مئوية واحدة سنوياً في المتوسط أو أعلى منذ عام 2009.
يبين تقرير السلام الإيجابي أنه لا توجد حلول سريعة وسهلة.. مشيرًا إلى أن بناء التنمية المجتمعية ودعمها يتطلبان عددًا كبيرًا من التحسينات على مستوى المجتمع، والتي تتقدم بالتنسيق مع بعضها البعض على مدى فترات طويلة من الزمن.
وقف الصراع أو تجنبه ليس غاية في حد ذاته.. ومع تقدم السلام الإيجابي، فإنه يتيح بيئة حيث يمكن للإمكانات البشرية أن تزدهر بسهولة أكبر.